الأربعاء، 2 مايو 2012

بلياتشو




كان في حينا سيرك كبير كان رائع بكل ما تحمله الكلمة من معاني كُنت أقضي به جميع أوقات فراغي و أنا طفل و أنا صبي مُراهق و أنا شاب حتى بعد أن تخرجت و أصبحت طبيب نفسي مشهور و مرموق كان هذا السيرك الكبير هو إختياري الأول لقضاء أي وقت فراغ أملكه كان به فقرة قريبة للغاية إلى قلبي و هي فقرة البلياتشو كانت تُثير بداخلي الضحك الصافي النقي الخارج لتوه من القلب كرضيع خرج لتوه من رحِم أُم حانية أحتضنته سريعاً فما أستمر بكائه إلا ثوان قليلة يُعلن فيها عن مجيئه كانت فقرته حقاً مُميزة كان ينتزع من ضحكات تُشفي آلام الواقع و تُثير دفئ يصهر برودة و قسوة الحياة.


بينما أنا أستعد لإستقبال مريض جديد لي طقوسي الخاصة فأنا أُحاول أن أكون صديقه لا طبيبه أكون مرايته التي يرى من خلالها نفسه التي يظهر بها من دون خجل من دون كل هذه الأقنعة التي تفرضها علينا الحياة دخل المريض الجديد و أنا أُتابعه في هدوء مُحاولاً رسم صورة مُستقبلية عن هذا الرجل الذي يقترب عُمره من الستين و لكنه يتمتع بصحة جيدة مُقارنة بأقرانه تعرفت عليه و على إسمه و طلبت منه أن يحكي لي ما يدور برأسه و ما أن بدأ الحديث حتى بدأتُ في الإنصات مُسجلاً كُل التفاصيل الصغيرة المُهمة التي ستُساعدني حتماً في تشخيص المرض و في مُحاربته أسرد حياة طويلة مليئة بالهموم و المشاكل و كيف أنه يعود من عمله إلى البيت ليجد كُل شيئ مُرتب و نظيف و لكن بلا روح كيف أنه يعود ليجد زوجته تنتظره بسيل من الأسئلة و التحقيق و التدقيق في كُل كلمة كيف يُضايقه هذا الشعور و هو مُحاصر بينما هو ذو قلب حُر لا يكره إلا الأسر و الحصار كيف أن زوجته تعشق النظام و الدقة و كيف يعشق البوهيمية كيف أن زوجته تهتم بصورتها و منظرها أمام كُل الناس إلا أمامه هو كيف يُشاهد الأخبار و يستمر طوال الليل يبكي من تلك الكواراث التي تحدُث من حوله.


تركته قليلاً ليرتاح و يُجفف دموعه و أعطيته قليل من الشاي الساخن ليُنشطه بينما أنا أُنصت له بإهتمام و هو يحكي بتأثُر بالغ عن مُعاناته من جيرانه و كيف أنهم صاخبون عُنصريون لا يتوقفون عن التفاخر بأشياء وهبها الله لهم لم يكتسبوها عن قوة بل إنهم كُسالى و أغبياء لا يستحقون ما بهم من خير كيف أنهم لا يتوقفون عن التحديق فيه و الحديث عنه و عن شجاره المُعتاد مع زوجته كيف أنه يعمل بكد و تعب مُحاولاً أن يوفر لها ما يستطيع بينما هي لا تتوقف عن طلب المزيد.


ظهرت أمامي ملامح المرض و أدركته سريعاً فهذا الشخص إنسان بالغ الحساسية و مع ذلك يُجاهد نفسه أن يُخفي ذلك يحمل فوق ظهره كُل الآلام التي يراها مع إنها ليست آلامه بل إنه يتحملها بأكثر من أصحابها لا تستطيع عيناه أن ترى ألم دون أن يستشعره في قلبه لا يجد من يستمع له فهو دائماً مُطالب بأن يستمع للآخرين بأن يصمت و يتركهم يتحدثون لا يتحمل الضجة و الضوضاء لا يتحمل التشاحُن و البغضاء يتعجب من أن هُناك من يحمل لقب إنسان و لكنه أقرب إلى الحيوان الوضيع منه إلى إنسان هذا الرجُل يُعاني من إكتئاب حاد.


في الزيارات المُتكررة حاولت أن أصف له بعض الطُرق التي ستُساعده على التخلُص من هذا الإكتئاب نصحته بأن يبحث عن هواية له أن يبحث عن مكان يسير فيه يومياً يتمتع بالمناظر الطبيعية الخلابة و اللون الأخضر أن ياُخذ إجازة من عمله و يذهب إلى الشاطيئ أن يسترجع ذكرياته و أن يبحث عن السعادة و في النهاية تذكرت السيرك و فقرة البلياتشو فأنتضفت واقفاً و قُلت له الحل هو أن تذهب إلى ذلك السيرك الكبير في حينا و تُشاهد فقرة البلياتشو و أسهبت في وصف مهارات هذا البلياتشو و قُدرته على إنتزاع الضِحكات من القلوب الواهنة المُكتئبة و أسترسلت في الحديث و الوصف فإذ بي أراه يبكي بحُرقة و يقول و لكنني لا أستطيع مُشاهدة تلك الفقرة يا سيدي الطبيب سألته بقلق لماذا؟!




فرد قائلاً: لأنني ذلك البلياتشـــــو

ليست هناك تعليقات: