الخميس، 3 نوفمبر 2011

الأريكة الوثيرة

تنهدت و أنا أرى الماضي أمامي يمر كشريط جميل من الذكريات المليئة بأيام الطفولة البريئة و أيام المراهقة الصاخبة و أيام الشباب اللاهية العابثة كُل هذا مر سريعاً حتى توقفت أو بدأ الشريط يمر ببطء نوعاً ما أمام عيناي في تلك الفترة التي تزوجت فيها و كيف تغيرت الحياة و أصبح الشعور بالمسئولية يُرهقني و يضغط على أعصابي حتى أتى ذلك الطفل الجميل إلى الحياة كهدية رائعة من الله سُبحانه و تعالى فبدأت أشعر بأن هُناك هدف لي في تلك الحياة التي كانت من قبل مليئة باليأس و الإحباط.


كانت نظرة واحدة في عيون هذا الملاك الصغيرة كفيلة أن تمنحني طاقة دافئة مليئة بالإيجابية و الأمل و هو يتحرك في هدوء و سكينة أو و هو يتحرك بعشوائية و تتغير ملامح وجهه و يبدأ في البُكاء فتأتي أمه مُسرعة كي تُطعمه أو تُساعده في شئونه الصغيرة فأبتسم في هدوء شاكراً الله عز و جل على نِعمه الكثيرة التي وهبنا إياها.


تنهيدة أُخرى حارة تتبعها ذات الدمعة الساخنة التي طالما أرغمت عيناي نفسي و غالبتها بين الحين و الآخر على تذرف مثلها هي مرات قليلة حقاً تلك التي بكيت فيها و أنا أرى صروح الأماني التي بنيتها بالآمال و الأحلام تتهاوى كما لو كانت بُنيت من عيدان الثقاب اليوم أبلُغ الثالثة و الستين من العُمر و لازالت أجلس على نفس الأريكة, تعبر أمامي أنثى مُتشحة بالسواد فلا أُعيرها إنتباهي لا أكاد أستمع إلى صيحات الأطفال و هُم يلعبون حولي بينما تتسلل هي في هدوء و تحتضن كفي تتساقط عليه تلك الدموع ببطء شديد ننظر إليك نُحدق ملياً في عيناك الصامتة نتوارى بنظرتنا خجلاً منك أتنهد مرة أُخرى و يبدأ لساني في الحديث أتحسس تلك الأريكة و أتكلم في هدوء بينما أُحدق في عيناك لا أنتظر مِنك إلا أن تُسامحني يا ولدي العزيز.


في يوم مثل هذا جلست على ذات الوثيرة الأريكة كنت في عنفوان الشباب و فورته أُتابع بحماس قناة الجزيرة و هي تنقُل بثاً مُباشراً لما يجرى في القاهرة وقتها كان الخامس و العشرين من يناير عام ألفان و إحدى عشر كانت مصر في هذا الوقت يا فلذة كبدي تعيش أيام من أصعب أيامها كانت دولة البوليس ذات القبضة الحديدة لا تتواني عن الضرب بعُنف مُبالغ فيه على كُل من تُسول له نفسه أن يحتج أو أن يعترض و كان المبدأ السائد لدى غالبية الشعب من خاف سِلم إلا أنه كان هُناك فئة أدركت أن الخوف مهانة و أن السكوت على الظُلم السائد في هذا الوقت خيانة للأمانة و للبلد فخرجوا صارخين فأنقضت عليهم جحالف الأشاوس المغاوير بقيادة أنصاف أو أشباه الرجال و لكن الشباب لم يتراجعوا و لم يهنوا و لم يحزنوا و أدركوا أنهم الأعلون هل تدري ما كان سبب هذا يا ولدي العزيز كان بسبب قتل الشرطة السرية لفتي يُسمى خالد سعيد وقتها كانت مواقع التواصل الإجتماعي تجذب عدد كبير من الشباب كانت المكان الوحيد الذي يتنفسوا فيه حُرية بعيداً عن عيون أمن الدولة ذلك الجهاز الأسطوري و آلة التعذيب الجُهنمية في ذلك الوقت الآن يطلقون عليه الأمن الوطني كان هذا الجهاز يُراقب كُل كبيرة و صغيرة إلا أنه كان لا يُدرك قوة الإنترنت و مواقع التواصل الإجتماعي.


ألتف الناس حول قصة خالد سعيد و من بعده الشاب السلفي المسكين سيد بلال الذي وهبه الله الشهادة على يد مصري مثله و لكنه مصري بلا ضمير إنساني كان ما أكثرهم في هذا الجهاز أغلبهم بلا ضمائر أو أخلاق أحس الناس بإن الحياة أصبحت لا تُساوي و هم يرون البلد نتُلتهم من كل طرف أعداء و أصدقاء وصوليون و منافقون الجميع يُضاجع تلك البلد كما لو كانت عاهرة رخيصة في حواري شيكاغو أو في شارع الشانزليزيه كان الجميع يغترف من الثروات و هُم لا يجدون إلا الفُتات و قد لا يجدوه أحياناً فأتت جُمعة يا ولدي أطلقوا عليها جُمعة الغضب.


 أين كُنت أنا؟ يا ليتني كُنت معهم هذا كان لسان حالي و أنا على ذات الأريكة إما باحثاً عن ترددات قناة الجزيرة أو أكُتب على حاسوبي المحمول ما يروق لي من كلمات أبكي قليلاً و أُفكر كثيراً أُدخن بشراهة و أحتسي الشاي أتعاطف مع أولئك الشباب الذين أتخذوا من ميدان التحرير رمز و أصروا على أن يصلوا إليه و أحتلوه بجموع غفيرة يا ولدي سقط الكثير في هذه الثورة وقتها بين قتيل و جريح بين من فقد عيناه و من أقتنصته قناصة مصر التي لم تتفوه بكلمة واحدة وقت مقتل 6 من جنودها على الحدود مع العدو الإسرائيلي وقتها يا ولدي وجد رجال الجيش أنه لا مفر من التضحية برأس النظام و إهداء الثوار قطعة حلوى مُمتلئة بالمُخدر و هيتمثيلية مُحاكمة الرئيس و أعوانه و التي حدث فيها ما يُضحك أكثر مما يُبكي.


و كُنت أنا أيضاً على نفس ذات الأريكة أُتابع فقط أو أشترك بهدوء من خلال كتاباتي القليلة التي كُنت أحاول أن أرضي بها ضميري الذي كان يُنغص علي حياتي و أنا أرى الشباب يتساقطون و أرى النُشطاء الساسيون يتم القبض عليهم لا لشيئ إلا لأنهم يقولوا رأيهم وقتها يا ولدي العزيز كانت ثورتنا و أعذرني إن كُنت أدعوها ثورتنا لأني لم أقُدم لها حياتي كي أقول ثورتنا وقتها يا ولدي كانت ثورتنا ناقصة فقد أطاحت فقط بأحد الطواغيت و لكن ما لبث أن تشكل مجموعة من طواغيت أخرى تلعب نفس الدور الذي كان يلعبه خرجوا من عبائته و ساروا على دربه و طبقوا مبدأ فرق تسُد و بالفعل نالوا مُرادهم بمُساعدة الأغبياء من هذا الوطن زرعوا الفتنة في كُل مكان و أنطلقوا وحدهم دون غيرهم يمتصوا رحيق هذا الوطن كما يمتص الطفيلي دماء ضحيته بصمت و هدوء أنطلق أبناء الوطن الواحد يختلفون و يتصارعون و يتناحرون و نسوا أنهم في 18 يوم فقط وقفوا فيه صفاً إلى صف سوياً أسقطوا فرعون هذا الزمان لا أحد يستطيع أن يتخيل ما قد يحدث إن كانوا وقفوا 18 شهر يد واحدة كما كانوا من قبل.


ولدي العزيز سقط الكثير و الكثير من القنص و التعذيب و من المُحاكمات العسكرية و رويداً رويداً بدأت الحياة تعود إلى ما كانت عليه من قبل تغيرت الأسماء و الوجوه و لم تتغير النفوس ظلت كما هي شيطانية تبيع الوطن لمن يدفع الثمن كما لو كان قادة هذا الوطن يعملون لدى الأعداء لا يعملون لدى الوطن و بدأت الأيام تأخذنا قليلاً فقليل حتى عُدنا نرضى بنفس القليل الذي ثُرنا عليه من قبل و أنصرف كُل منا إلى حاله نتخاطف اللُقمة لنُطعم الأفواه و تركنا المائدة العامرة بما لذ و طاب لهم ساعدنهم بصمتنا و خوفنا و غبائنا و كل فترة نسمع عن ضحية جديدة للتعذيب عن بريئ في السجون عن شهيد على يد شُرطة بلده كان يقول حي على العدل حي على الكرامة.


سامحني يا ولدي على تساقُط دموعي بغزارة فلو كُنت تحركت من على تلك الأريكة الوثيرة و نزلت إلى الشارع صارخاً لا للظُلم لا للإستبداد ما كُنت أنت في مكانك هُنا, أحسست بيدها الرقيقة تُربت على ظهري و غالبت دموعها و هي تحاول أن تبدو مُتماسكة و قالت في صمت الراضي بقضاء الله هون عليك و أحتسب عِند الله إنه كان وديعة و أستردها الله و يكفيني فخراً أنني أُم الشهيد, ثُم أنهمرت دموعنا بينما تحتضن رأسي بذراعيها و أنا أسمع قلبها يبكي و ينفطر و غالبت مرة أخرى تقطُع صوتها و قالت هل أسبلت عيني إبنك و قُمت لإنهاء إجراءات الدفن صرخت قائلاً قتلته بصمتي قتلته بجلوسي على تلك الأريكة لأرى و لم أُشارك قتلته بيأسي لماذا لم نُهاجر فإن أرض الله واسعة, ربتت مرة أُخرى على ظهري و قالت لا تلومنا نفسك فقد ربيته على أن يكون شهيد.


ليست هناك تعليقات: